واحة التفكير
سيكولوجية الإشاعة ،‘، الفلتر الثلاثي _ د. عاطف القاسم
سيكولوجية الإشاعة ،‘، الفلتر الثلاثي‘
إن ما دعاني لكتابة هذا المقال هو أنني تلقيت رسالة عبر البريد الالكتروني من أحد الأصدقاء كنت قد تلقيتها قبل سنوات من الآن وأهملتها لسذاجتها ولسخف المحتوى الذي تحمله رغم ما ورد بها من عبارات تدفع مستقبِلَها لإرسالها وإلا يصنف من أعوان الشيطان ويتهم بالزندقة والفسوق.
والحقيقة أن مثل هذه القصص والروايات التي يتناقلها الناس يوميا عبر أحاديثهم ورسائلهم الإلكترونية لا تخلو من الإثارة والتشويق والثغرات بما يدفع السامع لنقلها، لتشكل فيما بعد مادة للحديث والتسلية وفرصة لاختلاق أو فبركة الأحداث والمواقف والأخبار غير الحقيقية على أنها حقيقة صادقة.
إن التفسير النفسي للإشاعة ينطلق من زاويتين تتعلقان بطبيعة شخصية الإنسان ومرونته الذهنية ..
فمن جهة يقوم كثير من الناس المروجين للإشاعة بإكمال الخبرات المعرفية الناقصة في القصص والأحداث التي يسمعونها من خبراتهم الذاتية، فعندما يسمعون خبرا ما - وهذا الخبر غير مكتمل - يقومون وبشكل غير مقصود أحيانا بإغلاق هذه الثغرة المعرفية حتى تستقيم القصة في عقولهم ويتحقق لديهم التوازن المعرفي ويشعرون بمنطقية روايتها ، فيلجأون إلى تفسير كل ما هو غامض أو مجهول بما يتفق مع خبراتهم الذاتية وينسجم مع طبيعتهم وهواهم.
أما الزاوية الثانية فتتعلق بمستوى التحليل والتمحيص وطبائع بعض الناس الذين يصدقون كل ما يسمعون دون تمحيص أو تدقيق، ثم نقله للآخرين بقناعة تامة كما لو كان حقيقة، بل إن بعضهم يقاسم الآخرين على صحة الخبر وبراءته من التزوير دون أدنى شك ودون أي دليل، وهكذا تكبر القصة بين الناس ككرة ثلجية تتدحرج من أعلى الجبل وتكبر شيئا فشيئا.
إن خطر الإشاعة على المجتمع يكون أكثر خطورة عندما يكون موجها من جهة ما، وتزداد الإشاعة خطورة عندما تجري على يد من نثق بهم ويعتبرهم المجتمع أهل العلم والمعرفة، فهؤلاء أكثر خطراً باعتبارهم أكثر تأثيراً في نفوس الآخرين.
ومن هنا لا بد من التريث والانتباه لكل ما نتلقاه، ونلجأ إلى إعمال العقل والتفكير لا أن نكون مجرد أبواق نتلقى ونردد، ونصدّق كل ما هب ودب، وننسى قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات:6)
ولنتذكر حكمة سقراط : ~ الفلتر الثلاثي ~ كلما حاولنا أن ننشر قصة سمعناها أو نروي خبرا قرأناه.
تقول هذه الحكمة :
في أحد الأيام صادف الفيلسوف العظيم سقراط أحد معارفه الذي جرى إليه، وقال له بتلهف: سقراط، هل تعلم ما سمعت عن أحد طلابك؟
- رد عليه سقراط : انتظر لحظة، قبل أن تخبرني أود منك أن تجتاز امتحان صغير يدعى ’امتحان الفلتر الثلاثي‘..
- قال الرجل مندهشا: الفلتر الثلاثي؟
- هذا صحيح، تابع سقراط: قبل أن تخبرني عن طالبي لنأخذ لحظة لنفلتر ما كنت ستقوله :
الفلتر الأول هو الصدق، هل أنت متأكد أن ما ستخبرني به صحيح؟
- لا، رد الرجل، في الواقع لقد سمعت الخبر و....
- قال سقراط: حسنا، إذاً أنت لست متأكدا أن ما ستخبرني صحيح أم خطأ ..
لنجرب الفلتر الثاني : فلتر الطيبة، هل ما ستخبرني به عن طالبي شيئاً طيباً ؟
- رد الرجل: لا، على العكس.....
- حسنا، تابع سقراط : إذاً ستخبرني شيئاً سيئاً عن طالبي على الرغم من أنك غير متأكد من أنه صحيح ..
بدأ الرجل بالشعور بالإحراج ..
- تابع سقراط : ما زال بإمكانك أن تنجح بالإمتحان ..
فهناك فلتر ثالث : فلتر الفائدة، هل ما ستخبرني به عن طالبي سيفيدني؟
- في الواقع لا ....
- تابع سقراط : إذاً كنت ستخبرني بشيء ليس بصحيح، ولا بطيب، ولا بذي فائدة أو قيمة، لماذا تخبرني به من الأصل ؟!
فاعلم صديقي أن الله أمرك قبل سقراط بأن لا تنقل إلا ماهو صحيح وطيب وذو فائدة، وابتعد عن نقل الإشاعة ولا تساهم في خداع نفسك ومجتمعك.
د. عاطف القاسم
بروفيسور مساعد في علم النفس ودراسات المرأة